تنمية بشرية

لا تشارك ..

لا تشارك ..

لا تشارك ..

في قصيدته الشهيرة “لا تصالح” كتب الشاعر الراحل “أمل دنقل” يقول: “لا تصالح ولو منحوك الذهب، أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما.. هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى …”

وأنا أقول: “لا تشارك”. لقد تعبنا وهرمنا ومللنا ونحن نلاحق الفيسبوك واليوتيوب والتويتر والجوجل، والياهو، والماهو، والماسنجر، والمكتوب، والمقروء، والمرئي والمسموع، وتأكدنا أن هذا المد الجارف من المتابعات والمشاركات لن يتوقف أبدًا، ولن يفيد أحدًا.

الأسبوع الماضي مررت بالمطار وكان كل واحد من المسافرين يحدق في (آيفونه) أو (آيباده) أو (لاب تبه). ويوم أمس ركبت المصعد حاملاً شريحة بيتزا مسطحة تشبه (الآيباد). دخلت المصعد ثلاث سيدات منهمكات يلعبن في أجهزة محمول مختلفة. لم تلق أي منهن السلام، ولم تنظر واحدة منهن إلى الأخرى. حتى رائحة البيتزا النفاذة لم تلفت نظرهن ولم تسل لعابهن. كن في غيبوبة إلكترونية، وكأن العالم قد تحول إلى جهاز صغير يسيطر على القلوب والجيوب!

عندما أعربت لصديق عن امتعاضي من سيطرة المحمول علينا، بدأ يشكو من طلبات ابنته المتكررة للحصول على (آيفون) أسوة بصديقاتها الصغيرات. فها هي المدارس مثل المصاعد تعاني من هجوم أجهزة المحمول المحوسبة على الفصول الدراسية، وغرف المائدة، وأوقات العمل، والعطلات، وكل مناحي الحياة. ولا أدري ما هي السياسات التربوية المطلوبة، ولا القرارات الإدارية المحسوبة، التي يمكنها صد هجمات شركات المحمول والاتصالات ومنعها من تدمير ما تبقى من إنتاجية وحرية للطلاب والموظفين والمعلمين!

هناك حرب شبكات تدور منذ سنوات، ولكن اشتد لظاها الأسبوع الماضي حين أطلق (فيسبوك) خاصيته الجديدة “شارك subscribe” لينافس خدمة “اتبع” من “تويتر” وخاصية الدوائر من “جوجل”. الخاصية الجديدة تجعلك تحول كل من هب ودب، وليس أصدقاؤك ومريدوك ومحبوك فقط، ليتابعوا أخبارك ويعرفوا أسرارك، بمجرد أن تفعل هذه الخاصية على صفحتك الشخصية أو المهنية، فيصبح كل ما تفعله وتقوله وتقرأه متاعًا مشاعًا للقطاعين العام والخاص، وللحكومات والشركات وبيوت الدراسات ودوائر المخابرات.
السيطرة على من يراك ومن يلاحقك ومن يشاركك أمر صعب، حتى قبل اختراع خاصية “شارك”. ومع الخاصية الجديدة، صار تذكر أو متابعة أو رصد ما يكتب على صفحتك وعنك، أمرًا مستحيلاً. وربما لا يعرف معظم “الفيسبوكيين” أنه بإمكان أي كان تنزيل كل ما مر وما سيمر على صفحته بضغطة زر، حتى قبل اختراع “شارك”.

عملاً بنصيحة “أمل دنقل” أقول لك: “لا تشارك” ولا تخض أم المعارك، مهما صرخ فيك تويتر وفيسبوك. فالعالم الذي ينحو بشبكاته واتصالاته وتداخلاته إلى مزيد من التعقيد غير المفيد، صار فعلاً بحاجة إلى صرخة غير إلكترونية يطلقها كل منا في وجه أصدقائه – وجهًا لوجه – قائلاً: “لا تشارك.”

نسيم الصمادي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى