تنمية بشرية

هالة الحب

    هذه منشورة اعدها د/ عبدالحميد الكبتي المدرب والإستشاري الدولي في مجال التنمية البشرية أمده الله بالصحة والعافية . واحببتها ان انقلها لكم لتستفيدوا منها​

السلام عليكم

    هالة الحب​

    الحب كلمة قليلة الأحرف ، كثيرة المعاني ، تتكون من حرفين ؛ ” الحاء ” وهو حرف جوفي يخرج من عميق المخارج ، و ” الباء ” حرف شفوي يخرج من طرف الفم .

    ومنذ قديم الدهر لا يزال الناس يتكلمون في الحب وعنه ، تارة يجملونه وتارة يشوهونه ، يربطونه بكل المشاعر الصادقة النبيلة أحيانا ، ويلصقونه بكل معنى دنيء هابط ، أحيانا أخرى .
    وبعيدا عن هؤلاء وأولئك ، أحببت أن أخوض غمار هذا المحيط الهادر الهادئ ، العذب المالح ، العميق الجميل ، ولكنه خوض في الذات ، لا في الآخر ، مناوشات ذاتية في الحب ، ترصده تفتش عنه في أعماق النفس ، تلمسه تهمس له ، تضمه وتحتضنه .. عسى أن نمسك بهالة الحب بقوة ، لتشع إشعاعا قويا لا ينطفئ ، بحول الله .
    حين يقف أحدنا أمام المرآة ، يحدق في شكله وجسمه وكل أعضائه ، يلف ويدور ، ينحني يتقدم يتأخر يبتعد يتقدم من المرآة ، ليكتشف الحفر والشقوق والبتور في جسده .. وفي الحقيقة أن ما يراه أحدنا في هذه المرآة ـ بكل حركاته ـ لا يمثل إلا قمة الجبل الذاتي ، الذي تتكون منه شخصيتك .
    وفي عالم الجيولوجيا فإن جذر الجبل يكون أضعاف حجم القمة الظاهرة التي يراها الكل ، ومن ثم فإن جذرك الذي في داخلك أضعاف ما تراه في المرآة ، بكل حركاتك التي فعلت .. سواء أكنت جميلا ، مملوحا ، أنيقا ، مهملا ، عذبا ، لذيذا .. أو غير ذلك ، كل ما تراه هو قمة جبلك فقط ، جزء من التكوين العام لشخصيتك ليس إلا . وبقية الجبل وضخامته كلها مكنونة في الجذر ، أكبر حجما ، أبهى صورة ، أكثر عمقا ، وأقوى صلابة .
    كما قلت : لا يهم شكل الجبل ـ شكلك ، ففي القرآن الكريم ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ .. ) لا يهم شكلك ، يهم داخلك جذرك ؛ وفي الحديث الصحيح ( إن الله لا ينظر إلى صوركم وأشكالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم ) والقلب هو المحرك الكبير لهذا الجبل ـ ذاتك ـ سواء القمة منه الظاهرة ـ جسدك وشكلك ـ أو الجذر الكبير الهائل ؛ روحك قلبك أفكارك مشاعرك إمكانياتك قدراتك عواطفك .
    فإن كان القلب هو المحرك الرئيس لهذا الجبل ؛ فإن أعظم وقود لهذا القلب هو ( الحب ) منه يتنسم الحياة ، ويشعر بالسعادة ، ويرقص طربا ، ويترنم مع موسيقى الوجود ، كأن عصفور الراحة يرفرف فيه ، هذا هو الوقود العالي الطاقة ، وقود يلهب المشاعر ، ويغذي الفكر وينيره ، ويخمد كل المعاني السلبية أفكارا كانت أو عواطف .
    قف الآن أمام مرآتك : ترى جسدك وشكلك ، أنظر للقمة وللجذر ، لا تهمل الجذر ، وحين تحدق بعيني رأسك وقلبك ، اسأل نفسك :
    هل تحب نفسك ؟ هل تحب ذاتك ؟ هل تقدرها ؟ هل تحترمها ؟ هل تسعدها ؟ هل تحتضنها ؟ هل تكافئها ؟ هل تعطيها ؟ ومن جديد : هل تحبها ؟!
    أعطيت دورة لبعض المتدربات عن التميز والنجاح ، وكان من تمارين الدورة ، أن تكتب كل متدربة في ورقة خاصة بها دون أي اسم لها ، تكتب خمس سلبيات تراها في نفسها ، ثم تتأمل هذه السلبيات بدقة في اللاوعي ، ثم تكتب ورقة أخرى فيها خمس إيجابيات معاكسة للسلبيات التي كتبتها ، ويكون دور المدرب هو إحلال الإيجابي مكان السلبي وفق إستراتيجية معينة .. المهم في الموضوع أن المتدربات نسين الأوراق مهملة في قاعة التدريب فتم جمعها للتخلص منها ، فأخذنا الفضول للقراءة ، فلا توجد أسماء المشاركات على الورق ، وإنما مجرد صفات سلبية ، وهالني ما كتبت المتدربات ، ومن بين ما كتبن ( كسولة ، غبية ، منافقة ، أكثر من وجه ، عاصية لوالدي ، متلونة ، فاشلة .. ) وصفات أخرى !
    ذكرت هذه التجربة لأقول : هل حين نرى أنفسنا بهذه الصورة يمكن أن يكون للحب معنى راسخ فينا ؟ أليست هذه النظرة لذواتنا هي الأسفين الذي يقتل الحب قتلا ! ، والعجيب أننا وحين نصف أنفسنا بمثل هذه الصفات ، ندعي حب فلان ، وعشق علان ، والهيام بعلتان ، ونظرتنا هكذا دونية نازلة !؟ .. هذا والله العجب العجاب ، وهذا هو الهدر الصحيح لطاقة الحب فينا ، وهذا هو قلب الموازين والمشاعر بحق .
    نعود للوقوف أمام المرآة ، قف وارفع رأسك وصدرك وتنفس براحة :
    ـ أحمد الله على منظرك ـ قمة جبلك ـ واسأله الكمال في مخبرك .
    ـ اجلس مع ذاتك فقط ودون ما تحبه في نفسك ولا ما تحبه ، بكل إيجابية في الحالتين ، وبكل ثقة وفخر .
    ـ لا تلتفت في هذه الجلسة إلى ما يقوله الناس عنك ، فهم بين مد وجزر ، واستفد من نقدهم بكل رحابة صدر ، ولا تجعل كلامهم السلبي يمر للجذر أبدا ، ارمه في البحر .
    ـ برمج خطط كيف تتخلص من السلبي وتحل محله الإيجابي ، وكن متفائلا ، غير محبط .
    ـ فكر في كل شي إيجابي معاكس للذي لا تحبه في نفسك ، فكر كأنك حزته ورسخ فيك ، فكر وعش الجو كاملا ، وتخيل نفسك كما تحب بعمق وتنفس هادئ .
    ـ طوال هذه الأيام كرر المعاني التي تحب أن ترسخ فيك ، كررها لا تمل ، وأنت تمشي وأنت جالس وأنت في السوق كرر كرر كرر ، لا تمل .
    ـ اقرأ استمع حاور أكتب تصفح كل موضوع يتصل بالمعاني والصفات التي تحب أن تكتسبها فيك .
    ـ لا تظنن أنك مغرور ومتكبر لو أحببت نفسك ، كلا ، الغرور والتكبر هو ازدراء الناس واحتقارهم ، وأنت تثق في نفسك وتحبها ، ثمة فرق ، لا توسوس .
    ـ إن شعرت خلال حركتك في الحياة بأي معنى سلبي وصل لك فيك لا تحبه ، غير المزاج بسرعة بتذكر الإيجابي ، ولا تستسلم للمزاج السلبي فتحبط .
    ـ دائما دائما دائما ركز على مرآة الجذر ، أكثر بكثير من التركيز على القمة ، فالحب والسعادة والراحة والطمأنينة تنبع من غور النفس ، وليس من حلاوة الفم و الشفاه .
    حين تحب نفسك تفهم معنى الحب بحق ، وتقدر وقتها أن تدرك بوعي لم تحب فلان ؟ ولم تعشق فلان ؟ بل سيكون للحب في نفسك ألق جميل منعش ، لا يذوقه أبدا من يلوكون الحب في أفواههم ليل نهار كحبة اللبان ، مصيرها النفايات !
    ومما كتبته يوما : ( إنما الحبيب من تخرج ألفاظ الحياة من تحت لسانه ، ويكشف قلبه عن معانيها ، ويضفي عليها ألوان الطبيعة بفعاله ، يزيد حياتك ألوانا منوعة متعددة ، محلقا بك في سماء الوجود بروحك ، كأنك الصقر في علياءه .. فإن أدعى مدع للحب حالفا مقسما لك : وطمس حياتك ، ومال لك لمصلحة ما ، فكبح روحك ، وألبسها السواد … فاعلم أنك مخدوع ، قد نيل منك ، فاستدرك قبل موات روحك .. ) .
    إن هالة الحب الحقيقية تنبع من حبنا لأنفسنا ، وفقا لمعيار المعاني والأفكار والمشاعر الإيجابية فينا فقط ، ووفقا لمعيار التخلص قدر الممكن من كل معنى وفكر وشعور سلبي ، والسعي والتعب الجميل اللذيذ نحو كل ما هو مشرق وعالي ، فنزرعه في حديقة أرواحنا ، ونسقيه بحرصنا وثقتنا وحبا الدائم الرائق .
    حين تتوفر هذه الهالة فينا فنحب أنفسنا ، نشع الحب على كل شيء حولنا ، أهلنا بيوتنا أطفالنا أصدقائنا جيراننا .. وحين نشع هذا الحب ندرك فعلا من يجدر بنا أن نحبه ، ونعطيه حنايا قلبونا ، ليتربع فيها منسجما ، فيزيد بوجوده فينا ، يزيد جذرنا قوة وصلابة وروعة .
    مع خالص الحب ​

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى